يُعتبر الجينز من أكثر الملابس انتشاراً وإثارة للاهتمام في تاريخ البشرية، إذ يرتديه الناس ويحبونه في شتى أنحاء العالم، دون أي فرق بين الجنسين ولا الفئات العمرية، ولا الثقافات ولا الطبقات.
يقول عالم الانثروبولوجيا (علم الإنسان) داني ميلر، في كتابه “الجينز الأزرق”،إن الجينز تحول “إلى رمز للملابس التي يرتديها الناس ليشعروا بالراحة والأناقة في نفس الوقت، فهو أكثر متانة وحداثة، ويبدو جيداً من حيث الشكل والتصميم، ولا يحتاج للغسيل ولا للكي بطريقة مستمرة، وأسعاره في متناول الجميع”.
فما هي حكاية هذا الاختراع غير المسبوق في التاريخ؟ وما الذي حوله إلى رمز للثقافة الأميركية يُدر المليارات؟ وكيف اجتاح العالم حتى أصبح جزءً من نسيج المجتمع؟
ميلاد الجينز الأزرق Blue Jeans
في العام 1853، جمعت “أرض أميركا الواعدة” شابين؛ أحدهما ليفي شتراوس (24 عاماً) القادم من ولاية بافاريا الألمانية إلى سان فرانسيسكو ليفتتح محلاً لبيع الأقمشة، والذي ابتكر فكرة “الجينز الأزرق” من القطن وقماش يعرف باسم “الدينم” Denim، كان قد أحضره معه لتصنيع الخيام.
أما الشاب الآخر، فهو جاكوب ديفيس (22 عاماً) الذي قَدِمَ بدوره من لاتفيا، ليبحث عمن يشاركه تنفيذ اختراع صممه، عبارة عن سروال ذي “مسامير معدنية” تُثبّت في زوايا جيوبه، لجعله يتحمل ظروف العمل الشاقة، فيدوم لفترة أطول ولا يتمزق بسهولة.
وفي 20 مايو/آيار من العام 1873، ظهر الجينز الأزرق ذو المسامير النحاسية بواسطة شركة Jacob Davis and Levi Strauss Company، ليثبت المُنتج الجديد متانته بالفعل، ويحظي بشهرة واسعة.
وظهرت أول ماركة منه في العام 1889 تحت اسم Two Horse ابتكرتها شركة ليفايز Levi’s، التي اشتهرت بصناعتها لملابس عمل قوية من الدنيم الأزرق الأصلي، حيث تحمل الرقعة الجلدية الموجودة في الخلف صورة بنطلون يسحبه حصانان، دليلاً على قوته.
انتشر الممنتج بين رعاة البقر في الغرب الأميركي، قبل أن يُضاف إليه جيبين خلفيين في العام 1901، وحلقات للحزام في العام 1922.
من كروزبي إلى اوباما
حتى خمسينات القرن الماضي، كان ارتداء الجينز يُعتبر نوعاً من التمرد والخروج عن المألوف لدى الطبقة الراقية من المجتمع الأميركي.
لكن المغني بينغ كروزبي استطاع في العام 1951 أن يحوله إلى موضة، عندما توجه إلى أحد الفنادق الراقية في كندا مُرتديا الجينز، وحالت شهرته دون رفض حجز غرفة له بسبب مظهره غير اللائق.
وما أن علمت شركة ليفايز Levi’s بما حدث، حتى سارعت بتصميم بزة خصيصاً لكروزبي، وضعت عليها علامتها التجارية الحمراء الشهيرة، ومنذ ذلك الحين تغيرت النظرة إلى الجينز.
ساهمت أدوار مارلون براندو وجيمس دين في أفلام الغرب الأميركي بنشر موضة الجينز الأزرق بين الشباب، باعتبار كلا النجمين رمزاً للتمرد ضد ثقافة القمع آنذاك.
وفي الستينات، أُذيع أول إعلان تلفزيوني لشركة ليفايز، وواصل الجينز انتشاره بين أبناء الطبقة الوسطى الأميركية. وبدأ المتظاهرون من طلاب الجامعات بارتدائه كرمز للتضامن مع الطبقات الأكثر تأثراً بأزمات التمييز العنصري وقرارات الحرب.
أيضاً مَثَّلَ تواجد النساء جنباً إلى جنب مع الرجال في المصانع والمزارع، سبباً كافياً لارتدائهن الجينز، وظهرت مارلين مونرو وهي ترتديه في فيلمها River of No Return، وانتشر إعلانات تصور نساء يرتدين الجينز موديل 501.
كما بدأت شركات التبغ في استخدام الجينز في حملاتها الترويجية، من خلال ملابس رعاة البقر التي أضحت السمة المميزة لإعلانات “مارلبورو”.
أما أدوار النجم بول نيومان وموسيقى الروك، فقد جعلا من الجينز معلماً مميزاً بحلول السبعينات.
وفي الثمانينات عرضت بروك شيلدز تصميمات كالفين كلاين من الجينز لأول مرة، ومشت بريتني سبيرز بصحبة جاستين تيمبرليك على السجادة الحمراء، وهما يرتديانه في حفل توزيع جوائز الموسيقى في 2001.
وبعد أن ارتداه من الرؤساء الأميركيين كل من كارتر وريغان وكلينتون وبوش، ظهر باراك اوباما مرتديا الجينز، في افتتاح دوري البيسبول في العام 2009.
الجينز يغزو العالم
عمل الجنود والبحارة الأميركيين، الذين تمركزوا في أوروبا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية، كسفراء للجينز بغير قصد، حيث كانوا يرتدونه خارج أوقات الخدمة.
وبعد الحرب، أصبح الجينز يمثل طريقة الحياة الأميركية، التي كانت تبدو بالنسبة للأوروبيين أكثر يسراً وسعادةً. وبعد أن كان الجينز يُعتبر مُرادفاً لنمط حياة رعاة البقر، أصبح يرتديه والموظفون والطلاب ورؤساء الدول وربات البيوت وأشهر عارضات الأزياء، حتى وصلت حمى الجينز إلى الاتحاد السوفياتي من خلال المهرجان العالمي للشباب والطلبة في العام 1957. وسرعان ما وضعت كل ثقافة فرعية بصمتها عليه، مثل تمزيق مواضع معينه فيه، أو رسم شعارات.
يقول عالم الانثروبولوجي داني ميلر، “في كل دولة سافر إليها، من الفلبين إلى تركيا، والهند والبرازيل، توقف ميلر وقام بعد أول مائة شخص يمرون أمامه، وفي كل مرة كان يجد أن نصف عدد السكان تقريبا في هذه البلاد يرتدون الجينز في أي يوم، فقد انتشر الجينز في كل مكان بالعالم”.
سر التسمية
يعتقد البعض أن أصل كلمة جينز يرجع إلى مدينة جنوى الإيطالية، والتي تُنطق بالفرنسية “جينز”، حيث كان بحارتها يرتدون السراويل المصبوغة بالزرقة النيلية، والمصنوعة من نسيج القطن القوي والمميز الذي اشتهرت به مدينة نيم Nîmes الفرنسية في القرن الـ 19، وسُمي بـ “الدينم” نسبة إليها.
قدرة يصعب تفسيرها على النظافة
أبهر الجينز عشاقه بما له من قدرة يصعب تفسيرها على الاحتفاظ بنظافته ومظهره الجيد لفترات طويلة، حتى مع تجنب غسله لأطول مدة ممكنة، فقد قام أحد الطلاب الدارسين لعلم الأحياء الدقيقة بجامعة ألبرتا ويدعى جوش لي، بارتداء بنطلون من قماش الدينم الخام لمدة 15 شهراً دون أن يغسله، وقام بعدها بإجراء اختبار لمحتوى البكتريا الموجودة به، ثم قام بإجراء نفس الاختبار بعد أسبوعين من غسل البنطلون، فوجد أن حجم المحتوى البكتري هو نفس الحجم تقريبا في الاختبارين.
تقول راشيل ماكوين أستاذ علوم النسيج، والتي قامت بالعمل مع الطالب لي في إجراء هذه التجربة، “هذا يُظهر أن النمو البكتيري لا يزداد كثيراً إذا لم يتم غسل الجينز بشكل منتظم”.
بنطلون جينز لكل فرد
كان للألياف المرنة المطاطية أو الليكرا، دوراً في انطلاقة جديدة لصناعة الجينز، أوصلت الإنتاج السنوي منه إلى 5 مليارات قطعة، وأنفق المستهلك الأميركي أكثر من 14 مليار دولاراً على الجينز في العام 2011، بمتوسط 4 قطع للفرد سنوياً، تمثل نسبة 39% من المشتريات العالمية منه، تليها أوروبا الغربية بنسبة 20%، واليابان وكوريا بنسبة 10% وبقية العالم بنسبة 31%. ومن المتوقع أن يصل الاستهلاك قريباً إلى بنطلون جينز لكل فرد يعيش على هذا الكوكب.